الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
أيها الحبيب:
لقد أخبرنا الحبيب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن في الجسد مضغة
إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب.
فهل فتشت في قلبك، وقلبت بداخله لتنظر إن كان مَعْلَم الإيمان بالقضاء والقدر
قد سكن في قلبك أم لا؟
وهل ترى أن قلبك مطمئن بأن ما أصابك لم يكن ليخطئك؟
وهل تراه مطمئناً بأن ما أخطأك لم يكن ليصيبك؟
وهل ترى هذه الطمأنينة في قلبك عندما علمت أن ربك قد فرغ من كتابة مقادير الخلائق
في اللوح المحفوظ، وذلك قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؟
وهل ترى هذه الطمأنينة في قلبك وأنت تطالع كتاب ربك، فعلمت أنه ما من مصيبة
وقعت على الأرض، أو وقعت على الإنسان إلا وهي مكتوبة في هذا اللوح المحفوظ
وذلك قبل أن يخلقها ربك؟
أيها الحبيب:
لقد قال لنا الملك الديان القوي المتين
(قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51)
فهل ترضى أيها الحبيب؟
إن الذي يتولى أمورك وشئونك هو ربك -سبحانه- الذي بيده ملكوت السموات والأرض
والذي بيده مقاليد الأمور، الذي يدبر الأمر من السماء إلى الأرض، ثم يعرج إليه في يوم كان مقداره ألف سنة مما تعدون، الذي يملك السمع والأبصار، والمتصرف في هذا الكون
بكل أنواع التصرفات من الإحياء والإماتة، والإعزاز والإذلال، والهداية والإضلال
والعطاء والمنع، والنفع والضر، وغيرها.
هل ترضى بغير الله أحداً؟
أيها الحبيب:
فليستقر في قلبك، ولتعقد على قلبك، وليكن ذلك يقيناً في قلبك أن أهل السموات السبع والأرضين السبع، ومن فيهن وما بينهما لو اجتمعوا على إماتة ما الله محييه
ما كان ذلك بممكن في استطاعتهم.
بل ولو اجتمع أهل السموات السبع والأرضين السبع، ومن فيهن وما بينهما
على إعزاز ما الله مذله، ما كان ذلك بممكن في استطاعتهم.
بل ولو اجتمع أهل السموات السبع والأرضين السبع ومن فيهن وما بينما على خفض ما الله رافعه ما كان بممكن في استطاعتهم. (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (آل عمران:26)
ولو اجتمع أهل السموات السبع والأرضين السبع، ومن فيهن، وما بينهما على هداية من الله مضله، ما كان ذلك بممكن في استطاعتهم. (مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُرْشِداً) (الكهف: من الآية17)
ولو اجتمع أهل السموات السبع والأرضين السبع، ومن فيهن، وما بينهما على ضر من هو نافعه،ما كان ذلك بممكن في استطاعتهم. (قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) (الأعراف:188)
أيها الحبيب:
أيليق بك بعد ذلك أن تخشى من مخلوق مربوب مثلك، لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً
ولا موتاً ولا حياة ونشوراً فضلاً عن غيره؟
فلتتوجه إلى ربك ولتقل: (اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماضٍ في حكمك، عدل فيّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي)
ولتذكر أيها الحبيب:
هذه الوصية التي علمها النبي -صلى الله عليه وسلم- لابن عباس -رضي الله عنهما- إذ قال له: (يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء، فلن يضروك إلا بشيء قد كتبه اله عليك، ولو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لن ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، رفعت الأقلام، وجفت الصحف)
أيها الحبيب:
عليك أن ترضى بقضاء ربك وقدره، وليطمئن قلبك إلى ذلك، وإياك والتسخط أو الاعتراض على ما قدر ربك، وقضى عليك، فالأمر إليه -سبحانه-، وليس إلينا، فليكن توكلك واعتمادك على ربك، على الحي الذي لا يموت. (وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ)(الفرقان: من الآية58)
فلتعتمد على ربك في جلب المصالح ودفع المضار، فلا خاب من توكل على الله، فهو حسبك ونعم الوكيل.
ولتسلم إلى قدره وشرعه ولتتلقى أوامر ربك -سبحانه- بالسمع والطاعة، والامتثال والانقياد، ولتكن وقافاً عند نواهيه، وحدوده ولا تتعداها.
فمن لم يؤمن بالقضاء والقدر وينقاد للأمر والنهي فهو مكذب بشهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، ولو نطق بها بلسانه. (رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ)(الممتحنة: من الآية4)
(رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ)[i]